رنا حايك
يكثر الحديث عن انتهاكات لحقوق الإنسان يتعرّض لها فلسطينيون في مختلف المناطق اللبنانية، غير أن معظمهم يخشى الحديث إلى الإعلام. هنا رواية شاب في مقتبل العمر التقيناه في مخيّم البداوي وسرد ما حصل معه «لأني لا أخاف إلا الله»
هرب أحمد، (هو الاسم الوهمي الذي اخترناه له حفاظاً على سلامته) من مخيم نهر البارد في اليوم الثالث لبدء الاشتباكات بين الجيش ومنظمة «فتح الإسلام». إلا أن هربه من موت شبه محتّم لم يعن نجاته من الأذى الجسدي والنفسي الذي أصابه بسبب بطاقة هويته الزرقاء.
هو شاب فلسطيني من مخيم نهر البارد، يبلغ السادسة عشرة من العمر ويتابع منذ ثلاث سنوات دراسته في معهد لتعليم تصميم المجوهرات ويعمل في الوقت ذاته في محل لصناعة المجوهرات.
نزح من «البارد» في اليوم الثالث مع النازحين، ركض حتى الحاجز واستقلّ إحدى الحافلات المخصّصة لإجلاء المدنيين في اتّجاه مخيم البدّاوي. فُتّشت الحافلة ودقق في هويات ركابها عند حواجز الجيش حتى وصلت إلى برّ الأمان حيث احتضن أهالي البداوي النازحين وفتحوا لهم بيوتهم وقاسموهم اللقمة.
غير أن أحمد لم يكن يدري أن الزيارة التي قرّر القيام بها في اليوم التالي لعمه القاطن في منطقة العبدة، ستحمل الدّم والألم.
بدأت القصة عند حاجز العبدة حين أبرز أحمد بطاقته الزرقاء التي استحالت شبهة حين تتالت الأسئلة: «شو بتعرف عن فتح الإسلام؟»، «وين مخبيين شاكر العبسي؟». وحين كرّر أحمد بذهول أنه لا يعرف شيئاً عن هذه المنظمة اتهمه عناصر الجيش بالكذب وسارعوا إلى تكبيله بأسلاك من البلاستيك لا تزال علاماتها واضحة على جلد يديه ورجليه، ثم رموه أرضاً وانهالوا عليه ضرباً بكعوب رشاشاتهم. غابت صور وجوههم عن عينيه اللتين غطاهما الدم.
يسرد أحمد القصة بكلمات متقطعة لشاب لم يستفق بعد من الصدمة. يتابع: «رموني في الجيب، رموا فوقي دولاباً وأخذوني إلى ثكنة استحدثت فور بدء المعارك عند مفرق ببنين. هناك، قال أحد العناصر للسّرية: هيدا فلسطيني، شوفوا شو بدكن تضيّفوه».
وحين أراد بعض المدنيين من سكان المنطقة الانضمام إلى حفلة التأديب تلك متجمعين على باب الثكنة برفوشهم وعصيّهم، منعهم الجيش من الاقتراب وأكد بعضهم أنه كفيل «تكييفه» وحده دون مساعدة.
وعندما توافد الصحافيون المرابطون أصلاً عند مفرق ببنين منذ بداية المعارك، لمعرفة سبب الجلبة، طلب منهم الجيش عدم التصوير مؤكداً أن أحمد هو أحد عناصر «فتح الإسلام».
وبعد مرور قرابة ساعة من الوقت نُقل أحمد إلى مركز للمخابرات بغية التحقيق معه. وتفاوتت جلسة التحقيق بين تهديد صريح: «إذا ما بتقول إنك من فتح الإسلام بدنا نقتلك» وتهديدات باستخدام التعذيب بالكهرباء وأسئلة من قبيل: «ما نوع الأسلحة التي تستخدمونها؟».
ورغم تأكيد أحمد مراراً عدم وجود أية علاقة له بالتنظيم، وحلفانه أنه لم يمسك سلاحاً في حياته، ظل التّشاور بين المحققين محصوراً في إطار التهديد بقتله أو تعذيبه أكثر. عجز أحمد عن الكلام، انهار وبدأ ينزف من فمه دماً غزيراً حين قرروا نقله إلى مستوصف تابع للجيش. هناك، اخترقت جملة أحد الممرضين أذن أحمد كالرصاصة: «هيدا فلسطيني، ما منحكّمه، خلّيه يموت».
عرف أحمد لاحقاً سرّ نجاته ونقله إلى مستشفى «معن اليوسف» في عكار. فقد صودف أن رآه أحد معارفه، وهو ينقل بالجيب إلى المستوصف فاتصل بـ«معلمه» في الورشة، وسارع الأخير إلى نقل قصة أحمد إلى أخيه في الجيش فباشر الأخ اتصالاته لتأكيد براءة الموقوف.
في المستشفى قوبل أحمد بذهول. الطبيب المناوب في قسم الطوارئ قال للعنصر الأمني المرافق له: «شو عاملين فيه لهالصبي؟». نفى المرافق أية صلة للجيش بالإصابات وأكّد له أنهم وجدوه ملقى على الطريق، وأنه وقع على حجارة كانت السبب في تهشيمه. خلّفت هذه «الحجارة» آثارها على وجه أحمد الذي ما زال متورماً: جرح على صدغه التأم بسبع غرزات، أذن اقتطع جزء منها ولَحَم الطبيب ما بقي، وألم عميق من الذل ما زال ينخر في الذاكرة. وسيبقى...
عدد السبت ١٦ حزيران
No comments:
Post a Comment